تُعدّ ولاية ترينغانو الواقعة على الساحل الشرقي من شبه جزيرة ماليزيا، ليست فقط معروفة بجمال شواطئها، بل أيضًا تحتضن كنزًا ثقافيًا يكاد يُنسى: فن صناعة القوارب التقليدية الملايوية. ففي خلفية هدير أمواج بحر الصين الجنوبي، لا تزال أصوات المطرقة والإزميل تتردد في الورش الخشبية القديمة، شاهدة على إرث حضاري ورثته الأجيال منذ آلاف السنين عن المجتمع المالايو-بولينيزي.
ليست صناعة القوارب في ترينغانو مجرد حرفة يدوية أو تقليد ثقافي، بل هي دليل حيّ على استمرارية حضارة بحرية قديمة. فالأساليب المتّبعة فيها تحمل في طيّاتها علومًا ملاحية ورثها الحرفيون أبًا عن جد، لتكون بذلك شاهدًا حيًّا على هوية شعوب المالايو-بولينيزيا التي ما تزال حاضرة في كل قطعة خشب ومسمار خشبي داخل القوارب التقليدية الملايوية.
ورغم اختفاء السفن الكبيرة مثل "جونغ" التي كانت تجوب مياه جنوب شرق آسيا، إثر الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على مضيق ملقا، لا تزال سفن مثل "بيناس" و"بدار" تشكل رموزًا لصمود التقاليد وقدرتها على التكيف مع الحداثة، فهي ليست فقط وسيلة نقل، بل تجسيد لعبقرية الحرفيين الملايويين في دمج التراث مع المؤثرات الحديثة.
ما يميز هذه الصناعة هو منهجية البناء "بطن القارب أولًا، ثم الهيكل". إذ لا يستخدم الحرفيون مخططات أو رسومات هندسية، بل يعتمدون على الملاحظة والخبرة والبصيرة، حيث يُشيَّد جسم القارب لوحًا تلو الآخر وبشكل متماثل على الجانبين، وهو ما يتطلب مهارة فائقة لا يتقنها إلا القليل.
من أبرز التقنيات المستخدمة هي تقنية "التيمبال"، حيث تُركب الألواح الخشبية دون إطار مسبق، وتُثبت باستخدام أوتاد خشبية مصنوعة من خشب "البيناكا" الصلب، دون اللجوء إلى الحشوات الليفية المعتمدة في التقنية الأوروبية. وبدلًا منها، تُستخدم شرائح من لحاء "الغيلام" الطبيعي، وهو مادة عازلة للماء فعالة للغاية.
هذه التقنية هي دليل على براعة هندسية أصيلة تعود إلى الشعوب البروتو-ملايوية منذ آلاف السنين. فهي ليست فقط فريدة من نوعها، بل فعالة ومستدامة، وتُعد جزءًا من التراث الملاحي الأسترونيزي القديم – ما يدل على امتلاك هذه الشعوب نظمًا تكنولوجية متقدمة منذ فجر التاريخ.
تشير الأبحاث الأثرية واللغوية إلى أن هذه الأساليب كانت مستخدمة منذ أكثر من 10 آلاف عام، حيث استعملها البحارة الأسترونيزيون لنقل الثقافة والزراعة واللغة عبر المحيطات، بما في ذلك تقنيات زراعة الأرز التي انتقلت من سواحل الصين الشرقية إلى كافة أنحاء جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ.
من هذا المنطلق، لا تُعد القوارب التقليدية وسيلة نقل فحسب، بل رمزًا لنشر الحضارة والثقافة. فهي جسر يربط بين العصور، ووسيلة للتواصل بين الجزر والشعوب، تنقل في طياتها المعارف والقيم التي شكلت أساس الهوية المالايو-بولينيزية.
لكن اليوم، يقف هذا التراث على حافة الاندثار. فمع تسارع الحداثة وضعف اهتمام الأجيال الشابة، أصبحت هذه الصناعة في خطر. ودون دعم فعلي من الحكومات والمؤسسات التعليمية، قد تختفي هذه الحرفة العريقة قريبًا.
وإذا ضاع هذا الإرث، فلن نفقد فقط طريقة في صناعة القوارب، بل سنفقد جزءًا من هويتنا وشاهدًا تاريخيًا هامًا على عراقة أمتنا. فبدون هذا الدليل الحي، سيكون من السهل على البعض ترويج روايات زائفة حول أصل الملايو، تمحو مساهماتهم في حضارة آسيا.
وقد عبّر الباحثون في التراث، مثل "سريكاندي"، عن قلقهم من هذا المصير، محذرين من ضياع الحقيقة التاريخية لصالح روايات مشوّهة. لذا، فإن الحفاظ على هذا الإرث أصبح أمرًا ملحًا لا يحتمل التأجيل.
ويجب على الحكومات والمجتمعات المدنية إطلاق مبادرات لتوثيق هذا الفن وتعليمه، من خلال ورش العمل والمعارض والأنشطة التفاعلية، وتحويل الورش التقليدية إلى مراكز للتدريب والتثقيف للأجيال القادمة.
كما يمكن أن يشكل هذا التراث مصدرًا فريدًا للسياحة الثقافية، يُعرف العالم بالهوية الملاحية لشعوبنا، ويعزز حضورها في التاريخ الإنساني كمساهم رئيسي في الحضارات البحرية.
وسط أمواج العولمة التي تهدد القيم الثقافية، تبرز هذه الحرفة كمقاومة صامتة وقوية في آنٍ واحد. إنها تثبت أن هوية الشعوب ليست مجرد سطور في الكتب، بل مهارات حية تنتقل من جيل إلى جيل.
لقد حان الوقت لإحياء هذا التراث وحمايته من النسيان. لا يجب أن نكون أمة تفقد جذورها. فهذا التراث ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل أساس نبني عليه فخرنا في المستقبل.
وكما لا يتوقف الموج عن معانقة الشاطئ، يجب أن يستمر هذا الإرث حيًا – في صوت المطرقة، وفي عزيمة الشباب، وفي إدراكنا العميق بأننا ننتمي إلى حضارة عظيمة أبحرت يومًا عبر المحيطات لتصنع التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق